القدس - موقع الفادي
بعد أسبوعين فقط، سنبدأ رحلة الصوم الأربعيني والتي تبلغ ذروتها في الاحتفال بعمل المسيح الخلاصي من خلال آلامه وموته وقيامته. ولكن كيف يمكننا الاستعداد حقًا لعيش زمن الصوم؟ ولماذا يُعتبر هذا الزمن مهمًا جدًا لحياتنا الروحية؟
الصوم الأربعيني هو في جوهره، عمل ممتد من الصلاة والتوبة، يدعونا إلى علاقة أعمق مع المسيح. إنه مسيرة من الانضباط الروحي تقودنا إلى التوبة والتجديد. هذا الزمن ليس مجرد وقتٍ للتخلي عن أشياء معينة، بل هو فرصة لإعادة توجيه قلوبنا نحو الله. ومن خلال حكمتها، تقدّم لنا الكنيسة ثلاثة أركان: الصلاة، والصوم، والصدقة، وهي ممارسات أساسية تساعدنا على النمو في القداسة.
الدعوة إلى إنكار الذات
خلال الصوم، نحن مدعوون إلى التخلّي عن التعلّقات التي تشتت انتباهنا عن الله، سواء كانت ملذات مادية، أو عادات غير صحية، أو حتى مواقف تبعدنا عن العيش الكامل للإيمان. ما الذي نلجأ إليه بحثًا عن الراحة بدلًا من المسيح؟ ما الذي يستهلك وقتنا وطاقتنا أكثر من الصلاة؟ عندما نضع هذه الأمور الدنيوية جانبًا، نفتح المجال لنعمة الله للعمل فينا.
لم يقل المسيح: "إن صمتم"، بل قال: "متى صمتم" (راجع متى 6: 16)، مما يؤكد أن الصوم هو جزء متوقّع من الحياة المسيحية. فالصوم هو وسيلة ملموسة لصلب شهوات الجسد حتى نعيش بالكامل في الروح: "إِنَّ الَّذينَ هم لِلمَسيحِ يَسوعَ قد صَلَبوا الجَسَدَ وما فيه مِن أَهْواءٍ وشَهَوات . فإِذا كُنَّا نَحْيا حَياةَ الرُّوح، فلْنَسِرْ أَيضًا سيرَةَ الرُّوح" (غلاطية 5: 24-25). من خلال الصوم، نختبر بطريقة بسيطة آلام المسيح، ونتهيّأ للمشاركة في انتصار قيامته: "ونَحنُ نَعلَمُ أَنَّ إِنسانَنا القَديمَ قد صُلِبَ معَه لِيَزولَ هذا البَشَرُ الخاطِئ، فلا نَظَلَّ عَبيدًا لِلخَطيئَة، لأَنَّ الَّذي ماتَ تَحرَّرَ مِنَ الخَطيئَة" (رُومة 6: 6).
لماذا نصوم؟
الصوم ليس مجرد ضبط للذات، بل هو وسيلة لفتح قلوبنا لله. فهو يساعدنا على:
- إدراك أن الغذاء الروحي أهم من القوت الجسدي "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (متى 4: 4).
- السيطرة على رغباتنا وشهواتنا.
- التعبير عن التوبة والاستعداد للتغيير.
- التضامن مع الذين يعانون من الجوع والفقر والمعاناة (قولوسي 1: 24).
- الاعتراف باتكالنا على الله والتسليم لمشيئته بتواضع.
لكن الصوم لا ينبغي أن يُمارس بمعزل عن غيره، فهو عمل توبة يجب أن يكون مصحوبًا بالصلاة والعطاء.
الصوم يفتح لنا الطريق للصلاة الجادة
يدعونا الصوم إلى تقوية حياتنا الروحية، من خلال الصلوات الفردية او الجماعية التي نقوم بها. تشجعنا الكنيسة على ممارسات مثل:
- التأمل في آلام المسيح، خاصة من خلال درب الصليب.
- قضاء وقت في السجود للقربان المقدّس، متأملين الحضور الحقيقي للمسيح.
- قراءة الكتاب المقدس يوميًا، خصوصًا الفقرات التي تتحدث عن التوبة ورحمة الله.
- تلاوة المسبحة الوردية، وعيش مسيرة الصوم تحت شفاعة العذراء مريم.
- المواظبة على سرّ الاعتراف، حيث نختبر رحمة الرب اللامحدودة.
من خلال هذه الممارسات، نتقرب أكثر من المسيح الذي أمضى أربعين يومًا في البرية استعدادًا لنشر البشرى السارة / او كلمة للبشارة.
الدعوة إلى المحبة: العطاء
الصوم هو أيضًا وقت لعيش الإنجيل من خلال أعمال المحبة. فهو يعلّمنا أن نخرج من ذواتنا ونعيش من أجل الآخرين. الصدقة ليست مجرد تبرّع مالي، بل هي تقديم ذواتنا لخدمة الآخرين. عندما نختبر الجوع والضعف والتخلي خلال الصوم، نتذكّر أولئك الذين يعانون يوميًا. الصدقة الحقيقية تنبع من قلب مفعم بالرحمة، وتعكس محبة المسيح المعطاءة.
طرق عملية لممارسة أعمال المحبة:
- دعم الفقراء من خلال العطاء المالي أو التطوع.
- تخصيص وقت لأولئك الذين يشعرون بالوحدة أو يحتاجون إلى تشجيع.
- ممارسة المغفرة والمصالحة مع من أسأنا إليهم أو أساؤوا إلينا.
- القيام بأعمال خيرية أو اجتماعية صغيرة دون أن يرانا الناس.
الأسبوع المقدس: ذروة زمن الصوم
الصوم هو رحلة حج يقودنا إلى أعظم أيام السنة الليتورجية—الأسبوع المقدس. أن نسير عبر أحد الشعانين، والثلاثية الفصحية، للاحتفال بفصح الرب، مشاركين المسيح في آلامه وموته وقيامته. والدعوة واضحة: أن نحمل صليبنا ونتبعه، عالمين أن ما بعد آلام الجمعة العظيمة يكمن فرح أحد القيامة.
كلمة أخيرة: التزام بسيط ولكن صادق
من السهل أن ننظر إلى الصوم كوقت لإحداث تغييرات شخصية كبيرة، لكن بدلاً من إثقال أنفسنا بالقرارات المفرطة وعدم التغيير، يجب أن نركّز على بعض التضحيات والتدريبات الروحية البسيطة والجادة والتي نستطيع من خلالها تحقيق التغيير المطلوب. الصوم هو رحلة تستمر مدى الحياة، تقودنا الكنيسة فيها عامًا بعد عام. حتى عندما نفشل في التزاماتنا، يذكّرنا الصوم بضعفنا وحاجتنا إلى نعمة الله.
فوق كل شيء، الصوم هو دعوة لنحب كما أحب المسيح—لنتخذ من إنكار الذات وسيلة للمضي قدما، ونقوي حياة الصلاة، ونخدم الآخرين بمحبة. ومع تقدمنا نحو أعتاب الصليب، لعلنا نتغير الى ما هو أفضل، حتى نصل إلى القبر الفارغ صباح يوم الفصح فرحين ومشاركين بالمجد السماوي.
" إذا مُتْنا مَعَه حَيِينا مَعَه ...وإِذا صَبَرنا مَلَكنا مَعَه" ( 2 طيموتاوس 2)
عن "اعلام البطريركية اللاتينية"
No comments:
Post a Comment