بيت لحم - موقع الفادي
بقلم الاستاذ بهجت خضر
أوقات عصيبة يعيشها شعبنا باجتياح غزّة العنيف والمُؤلم، فالحرب والتهجير والدّمار في كلِّ مكان، والعنصرية والإبادة العرقية وإراقة دماء شعبنا! فهل نتساءل عن صمت الله؟ لا، بل بالأحرى عن عُمق انحدار الإنسانية وشر الاحتلال بلا رادع ديني ولا قِيَمي وأخلاقي.
لقد صُدمنا وباتَ حُزننا عميقًا على من فُقِدوا من أبنائنا ومن منهم ذاق أشد الألم لساعات وأيام تحت انقاض البنايات المقصوفة. أنظرُ بألمٍ إلى غزّة وقطاعها، وأتذكّر “اجتياح المهد” في بيت لحم عام 2002 لأربعينّ يومًا، حينما حاصرت وقصفت دبابات الاحتلال مكان مولد المسيح بمن فيه من فلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، مع أهل الدير والرّهبان. لقد كان ولايزال مكان مهد المسيح مزارًا وملجأً لأبناء البلد بمسيحييها ومسلميها، الذين اعتادوا أن يجتمعوا على الأخوّة والمحبة، فجمعهم المهد أيضًا في اللحظات الصّعبة المظلمة في مقاومة العُدوان، فكان ملجأً للإنسانية والوطنية مُجسّدًا العدل والمساواة لأبناء البلد الواحد.
إنّ الاجتياحات والاعتداءات وإن تفاوتت في عُنفها ونتائجها إلّا انها اجتمعت في معناها، فهي تعكسُ اجتياح قِوى الشّر لكرامة الإنسان واجتياحًا لمعنى الإنسانية الذي صاغهُ الله للإنسان. بل تعدّى شر الاحتلال على الله ذاتهِ، واجتاح صورة الله في الإنسان. وهنا أقف وأتأملُ قُربَ الميلاد من مكان الميلاد، لطالما نظرنا اليه بأنه دعوة حقيقية للمسيح ليمكث بيننا، فلا أستطيع أن أرى المسيحَ يزورنا فَرٍحًا إذا زار شعبنا المتألم ومكث وسط معاناتنا. ولا يريدنا أن نستقبلهُ في ميلادهِ احتفالًا، بل نراهُ يأتي في صورةِ تعانُقٍ مع شعبنا المظلوم وسط صمت العدالة الإنسانية وانتشار الظُلم، فنراهُ في هذا الميلاد يأتينا مجروحًا مُتألّمًا بين الأنقاض مُرافقًا للمتألمين والمكسورين لأجل شِفاءِ إنسانيّتنا وكرامة شعبنا.
لقد جاء المسيحُ إنسانًا ليرفعَ من إنسانيّتنا، كما أنه جاء إلهًا لنرى فيهِ خلاصًا، انه الخلاص الموعود من الخطيئة والهلاك، لكنّه أيضًا خلاصًا من ظُلم الإنسان وقهر العدوان وتردّي الإنسانية واختفاء الضمير الذي بتنا نشعر به وكأنه مُنتشر في كلِّ مكان. لا بُدّ للرّجاءِ الإلهي أن يتغلغل وللصّمود أن ينتصر رغم الظُلمِ والظلام. يدعونا الميلاد أن ننظر بعيون الرّجاء التي ترى حضور الله مع المظلوم والمكسور والمُتألّم، بل وبعبور الله معنا نحو حياةٍ أفضل. والميلاد هو دعوة للصّمود، فالمسيح جسّد في حياتِهِ نموذجًا للأخلاق والصّمود فمثّلَ الشّجاعة في المخاطر وعلمً مُتصدّيًا لمواقف الظُلم وانعدام العدالة وأهمية الصّمود في الأرض وتوّج تعاليمه بزرع أولوية المحبة لله ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان. لذلك فحنُ موجودين في أرضنا لأنّ هذا ما أرادهُ الله لنا. فالصمود والثبات بعيون الرجاء لا تُفهَم إلّا في إطار هذه الدّعوة الإلهية. فبعد أن أُرهقت عيوننا بكاءً وتعبت قلوبنا انتظارًا لفرجٍ ليس في الأفق، لا بُدّ أن ننظر لميلاد المسيح الذي نرى فيه سرّ الله الحاضر بيننا، نؤمن أنه حاضرٌ لأنه لا ينسى شعبه، نؤمن بالسلام الذي يمنحهُ بل وننتظرهُ، سلامًا سيُعيد بناء عدالة شعبنا والإنسان وحقّه في المساواة والحياة. سلامًا يُعيد شفاء الإنسانية المفقودة ويُعيدُ كرامتها كما يليق بصورة الله ومثاله التي خُلِقنا بها.
No comments:
Post a Comment