موقع الفادي: بقلم الاب لويز حزبون
1 فلمَّا رأَى الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه 2 فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال: 3 ((طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. 4 طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض. 5 طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون. 6 طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون. 7 طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون. 8 طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله. 9 طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون. 10 طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. 11 طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، 12 اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم.
المقدمة
عرض متى الإنجيلي عظة يسوع الكبرى التي تتمحور حول الشريعة المسيحية لتحديد سلوك حياة التلميذ الكامل لحصوله على سعادة الملكوت (5: 1-7: 29). وتُمثِّل هذه الشريعة دستورًا للحياة المسيحية، وفي مقدمة العظة نجد التطويبات (متى 5: 1-12)، "يُعيد يسوع بها ما قٌطع من عهود للشعب المختار منذ زمن ابراهيم، ويكمّلها بتوجيهها لا الى التمتع بالأرض فحسب بل الى ملكوت السماوات" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1716)؛ فهذه العظة الكبرى هي قلب كرازة يسوع؛ ويُظهر فيها الفقراء والودعاء والمحزونين والرحماء والساعين إلى السلام كأصحاب السعادة في الأرض وفي الملكوت السماوي، ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 1 -12)
1 فلمَّا رأَى الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه
تشير عبارة "رأَى الجُموع" الى رؤية يسوع الجموع الذين ورد ذكرهم سابقا (متى 4: 24-25)، وهم بحاجة للتعليم حتى لا يهلكوا نتيجة للجهل حيث لم يكونوا كلهم تلاميذ حقيقيين للمسيح بل تبعه كثير رغبة منهم في مشاهدة عجائبه او سماع كلمته. أمَّا عبارة "صَعِدَ" فتشير الى صعود موسى إلى الجبل لاستلام شريعة العهد القديم، وهكذا كان صعود يسوع الـــى الجبل ليُسلّم الشريعة، وكمــــــا ان الشريعة الأولى مــــع موسى قـد أعطيت علــــى جبل سيناء (خروج 19: 3)، كذلك أُعطيت الشريعة الجديدة علــــى جبل التطويبات في الجليل حيث انطلق التلاميذ منه الى العالم كله (متى 28: 16-20)؛ أمَّا عبارة "الجَبَلَ" فتشير الى جبل التطويبات قرب منطقة الطابغة عند الجهة الشمالية الغربية من بحيرة طبريا. ولكن للجبل معنى رمزي، وهو رمز للسماويات في ارتفاعه، ورمز الثبات على الإيمان، والترفـع عن الماديات والأرضيات. ويُعلق القديس اوغسطينوس "على هذا الجبل المقدّس صعد الرب بنفسه ليتحدّث مع شعبه، فيكون الجبل شاهد حق له خلال الحياة المقدّسة العمليّة"؛ وظن البعض انه "جبل قرن حطِّين" الواقع بالقرب من كفرناحوم غربي طبرية. وأمَّا عبارة "َجَلَسَ" فتشير الى طريقة المعلمين اليهود حين يُلقون تعليمهم (مرقس 4:1)، يسوع يجلس لأنه المعلم، الاّ ان يسوع يختلف عن موسى النبي، فموسى كمشرّع أعلن شريعة العهد القديم وطبّقها لشعبه، أمَّا يسوع كمُشرِّع فوضع شريعة العهد الجديد التي تكمل شريعة العهد القديم وأعلنها لجميع الناس والشعوب؛ ويعلق الراهب السِستِرسيانيّ إسحَق النجمة "كم كنت أتمنّى أن أجلس مع الرّب يسوع على الجبل، وأن أجلس عند قدميه وأتلّقى تعاليمه " (العظة الأولى لعيد جميع القدّيسين). وامَّا عبارة "فدَنا إِلَيه" فتشير الى تلاميذه الذين دنوا من المسيح لكي يسمعوه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "دَنا إِلَيه تَلاميذُه ليكونوا قريبين منه بالجسد لسماع كلماته، كما هم قريبون منه بالروح بتنفيذ وصاياه". فالإنسان لا يستحق الاقتراب من الله إلا بما في حياته من قداسة أخلاقية وتطهير قلبه. أمَّا عبارة "تَلاميذُه" فتشير الى الخطاب الموجَّه أولا الى التلاميذ ثم الى الجميع لتحديـد سلوك التلميذ الكامل للحصول على السعادة الحقيقية في الملكوت السماوي. مخاطبة يسوع لتلاميذه لم تمنع غيرهم من الجموع ان يسمعوا أقواله.
2 فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال
تشير عبارة "شرع" في الأصل اليوناني ἀνοίξας τὸ στόμα (معناها "فتح فاه") الى عبارة اصطلاحية تستعمل في مستهل الخطاب ذي شأن .وهنا تدل على ما يُقال ويصدر عن المتكلّم مباشرة، ليس نقلًا عن الآخرين، أي أنه من وحي فكر يسوع ومن أعماق قلبه، لأنه هو كلمة الحياة، ومصدر الوحي ، ويوكّد ذلك صاحب الرسالة الى العبرانيين "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين"(عبرانيين 1:1-2)؛ أمَّا عبارة "يُعَلِّمُهم" في الأصل اليوناني ἐδίδασκεν ( معناها علّمهم) فتشير الى صيغة الماضي المستمر، وكأن يسوع فتح قلبه وهو دائم التعليم . وفي الواقع، يقدّم لنا يسوع عظته على الجبل بصورة تعليم. والتعليم هو نقل المعلومات، والأفكار، والاتجاهات، والمهارات لإعداد الفرد للمضيّ قُدماً على درب التعلُّم. ولذلك فإن التعلُم هو النّاتج الحقيقي لعمليّة التّعليم. يسوع هو المعلم، شأنه شأن موسى، شأن معلمي اليهود. ولكن شتّان بين تعليم وتعليم.
3 طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات
تشير العبارة "طوب" في الأصل اليوناني μακάριος، وهي كلمة من أصل أرآميّ טוביהון أي "طوبى لهم، "هنيئًا لهم"، وفي العبري אַשְׁרֵי ومعناها بركة او سعادة بمناسبة تهنئة شخص لعطية نالها (متى 13: 16 و16: 17) او الى تبشير فئة من الناس بالسعادة (متى 11: 6). وقد بدأ المسيح دستوره بالمكافأة بدل العقاب كي يجذب الناس الى "الحياة الفاضلة". ويقول القديس أوغسطينوس" ما دمنا نحب المكافأة، يلزمنا عدم إهمال الجهاد لبلوغها ملتهبين شوقًا نحو العمل للحصول عليها"؛ وتكررت كلمة "طوبى" في الاعداد العشرة الأولى من هذا الفصل لكي يجتهد كل مسيحي الاتسام بهده الصفات التي لا تكمل الفضيلة المسيحية الاّ بمجموعها، فان نقص واحدة منها يبطل ان يكون الانسان كاملا. أمَّا عبارة "فُقراءِ الرُّوح" في الأصل اليوناني πτωχοὶ τῷ πνεύματι, مشتقة من العبرية עֲנָוִים فتشير الى الذين يعيشون الفقر الباطني الذي هو شرط ضروري لدخول الملكوت، فاللفظة تدل على موقف نفساني أكثر منه على أوضاع اقتصادية او اجتماعية. (أشعيا 61: 1). والفقر الباطني هو شُعور الإنسان أنه بحاجة لله والاتكال عليه، وليس تعلّق نفسه بالمال او التمسّك بخيرات الدنيا تماشيا مع قول سليمان الحكيم "باطلُ الأَباطيل كل شيَءٍ باطِل (جامعة 1: 2)، "وكلّ ما فوق التّراب تراب" كما كتبت رابعة العدويّة مؤسسِّة مذهب الحب الالهي. ويُعلق القديس أوغسطينوس "الفقير بالروح هو من لا يرجو سوى الله، لأن الرجاء فيه وحده لا يخيِّب. الفقير بالروح يتخلّى عن كل ماله ويتبع المسيح. وإذ يتحرّر من كل حِمْل أرضي يطير إليه كما على أجنحة". طلبه بانسحاق شديد واتضاع يرفعه الله لملكوته ويسكن عنده "هكذا قالَ العَلِيُّ الرَّفيع ساكِنُ الخُلودِ الَّذي قدُّوسٌ آسمُه: ((أَسكُنُ في العَلاءِ وفي القُدْس ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح لِأُحيِيَ أَرْواحَ المتواضِعين وأُحيِيَ قُلوبَ المُنسَحِقين" (أشعيا 15:57). وخير مثال على فقراء الروح هو العشار الذي وقف بعيدا في الهيكل وقرع صدره قائلا " الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ! (لوقا 18: 9-14). فمن ناحية، يُدرك الأنسان بالتواضع أنه بدون الله يكون كلا شيء، ويُعلق القديس لاون الكبير البابا في التطويبات "إنَّ ملكوتَ السماواتِ يُعطَى للذين تواضعَتْ أنفسُهم وليس للذين قلَّتْ أموالُهم" (العظة 95، 1-2: PL 54، 461-462)؛ ومن الناحية الأخرى "فإِنَّ أَوَّلَ الكِبرِياء هي الخَطيئة ومَن تَمَسَّكَ بِها فاضَ قَبائح" (يشوع بن سيراخ 10: 13). وكلمة الفقراء وردت (25) مرة في الاناجيل، وهي تدل على المعوزين والبؤساء. وهم المُبشَّرون بأنهم سعداء خلافا للراي. ويسوع يُعلن ان السعداء هم الذين يتقبّلون الملكوت، لا لأنَّهم يملكون شيئا، بل لأنهم يعيشون منذ الآن فرح الخلاص؛ حيث أن هذا الفقر لا معنى له ما لم يرتبط بيسوع الذي يبذل نفسه؛ وبكلمة أخرى، الفقر الروحي يكمن في الاستعداد الجذري في السهر والصلاة، والتخلّي عن الارادة الشخصيّة على غرار المعلّم يسوع، الفقير الأول، لكي يسعى بتواضع الى تحقيق مشيئة الآب. من لا يتخلّى عن كلّ شيء ويفتقر مثل المسيح لا يستطيع أن يكون تلميذاً له كما جاء في تعليم يسوع: "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني (متى 19: 21). والجدير بالذكر أنَّ تبشير الفقراء هو العلامة الثانية بعد المعجزات التي أعطاها يسوع لتلاميذ يوحنا المعمدان للشهادة أنَّه المسيح المنتظر "اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون" (متى 11: 5)؛ أمَّا عبارة "الرُّوح" فتشير هنا الى قلب الانسان وكيانه كما جاء في سفر المزامير "الربّ قَريب مِن مُنكَسِري القُلوب ويُخَلًصُ مُنسَحِقي الأرْواح" (مزمور 34: 19)؛ ولذلك فإنَّ فقراء الروح هم الذين ينتمون الى مجموعة الناس، وقد علَّمتهم المحن المادية والروحية عدم الاعتماد إلاَّ على عون الله وحضوره كما رنّم صاحب المزامير: "أَنا بائسٌ مِسْكين السَّيِّدُ يَهتَمُّ لي" (مزمور 40: 18). أمَّا عبارة "لَهم مَلكوتَ السَّمَوات" فتشير الى ملكوت الله وسُمِّي ملكوت السماوات لأنه نازل من السماء ولأنه الملكوت الذي يقود الى السماء. وأن سعادة الفقراء بالروح هي هبة لا مكافأة يحملها الله إليهم في شخص يسوع. وقد شدَّد متى الإنجيلي على ان السعادة تُعطى للفقراء الذين يربطون حياتهم بالله وحده. ومن هنا جاء معنى "الفقراء" في انجيل لوقا هم أولئك الفقراء الى خيرات هذه الدنيا وهم يتقبلون وضعهم في ضوء الخلاص. فالفقر يصبح دعوة الى انتظار كل شيء من نعمته تعالى. وأمَّا من يحاول ان يجد السعادة في الغنى فلن يكتسب سوى المال وهو لا يدوم. وفي هذه التطويبة الأولى، فيما العالم يطلب السعادة في الكبرياء والاستعلاء الشخصي والغنى، يسوع يضع السعادة في الفقر عن طريق التواضع "تَواضَعوا بَينَ يَدَي ربِّكم فيَرفَعَكم" (يعقوب 4:10). وخير مثال على ذلك التواضع هو في صلاة مريم العذراء "كَشَفَ عَن شِدَّةِ ساعِدِه فشَتَّتَ الـمُتَكَبِّرينَ في قُلوبِهم. حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 53). أن روح الفقر أول التطويبات هو الأساس لكل فضيلة. ويُعلق القديس لاون الكبير البابا "طوبى للفقيرِ الذي لا يَعُوقُه حبُّ الأرضيات ولا شهوةُ المزيدِ من خيراتِ هذا العالم، بل تكونُ رغبتُه الاغتناءَ بالسماويات"(العظة 95،2-3: PL 54، 462).
4 طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض
تشير الآية "طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض" الى اقتباس من صاحب المزامير "أمَّا الوُضَعاءُ فالأرضَ يَرِثون" (مزمور 37: 11). يطوِّب المسيح طبيعتنا التي كانت قبلًا شرسة، فتحوّلت بفضل خضوعها للرب إلى الوداعة. الودعاء هم ذوي القلوب المتسعة التي تحتمل إساءات الآخرين حيث لا تربِكُهم فيفقدوا سلامهم، ولا يقاوموا الشر بالشر، بل هم الذين يضعون ثقتهم المتواضعة في الرب، وفي ثقة في مسيحهم يقابلون من يعاديهم بابتسامة، لا عن ضعف، بل عن ثقة في قوة المسيح. ويُعلق القديس لاون الكبير البابا "يُوعَدُ ميراثُ الأرضِ للوُدَعاءِ والحُلَماءِ والمتواضعِين والصغارِ، والمستعدِّين لأن يتحمَّلوا الإهانات" (العظة 95،4-6: PL 54،462-464). أمَّا عبارة "ودعاء" من الأصل اليونانيπραεῖς (المستخدمة لوصف الحيوانات المستأنسة) المشتقة من اللغة العبرية וַעֲנָוִים فتشير الى الذين لا يستشيطون ولا يغضبون، ولا يخاصمون ولا يصيحون ولا يُسمع صوتهم (متى 12: 19)، بل يبقون هادئين ساكنين وصابرين. ليس في طبعهم شيء من القساوة والعنف. وصوّر اغناطيوس الانطاكي الموقف المسيحي امام الذين لا يشاركوننا إيماننا فكتب "أمام غضبهم، كونوا ودعاء، وامام تبجّحهم، كونوا متواضعين". فالوداعة لا تعني حياة خنوع أو ضعف بل هي من أسس العيش الهادئ والمُنسجم، في حين أن الغضب تأتي بالحروب"، ويُعلق القديس أمبروسيوس "يجب أن نتمسّك بالوداعـة فـي حركاتنا وملامحنـا وفـي طـــــريقة مشينا، لأن حركات الجسد تُفصح عن حالة العقل، والوداعة قريبة من التواضع كما جاء في الترجمة السِّريانية. فإذا كان يسوع وديعاً كما عرّف نفسه "فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11: 29)، ويعلق هرماس النبي الحقيقي " ان الذي فيه روح العلى وديع وهادئ ومتواضع" . فعلى التلميذ ان يكون وديعاً على خطى معلمه مهما كان وضعه الاجتماعي والديني". وهذا ما طبَّقه القديس بولس الرسول" أَنا بولُسَ أُناشِدُكُم بِوَداعَةِ المسيحِ وحِلْمِه، أَنا المُتَواضِعُ بَينَكم" (2 قورنتس 10: 1). وأوصى به مؤمنين قولسي " وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر" (قولسي 3: 12). ويعلق أحد آباء الكنيسة إقليمنضس الروماني "الوقاحة والاعتداد بالنفس والجسارة لمن لعنهم الله، والعطف والتواضع والوادعة لمن باركهم الله (1 إقليمنضس 30 /8). أمَّا عبارة "الأرض" فهي تشير إمَّا الى أرض الميعاد وهي رمز الى الملكوت او الى الأرض الجديدة التي يسكن فيها الودعاء كما جاء في تعليم بطرس الرسول "غَيرَ أَنَّنا نَنتَظِرُ، كما وَعَدَ الله، سَمَواتٍ جَديدةً وأَرضًا جديدةً يُقيمُ فيها البِرّ" (2 بطرس 3:13)؛ وأمَّا القديس أوغسطينوس فيقول "أن الأرض هنا إنّما تعني أرض الأحياء الواردة في سفر المزامير "آمَنتُ، سأُعايِنُ صَلاحَ الرَّبِّ في أَرضِ الأَحْياء " (مزمور 27: 13). ولكنه يحذّرنا من أن يصير ميراثنا للأرض بالمفهوم الحرفي هو هدفنا، إذ يقول: "إنكم ترغبون في امتلاك الأرض، ولكن احذروا من أن تمتلككم هي"؛ وتبتعد الوداعة عن حبّ الظهور والصدارة، بل تتقبل إهانة الصليب وذلّه على خطى المعلم الإلهي" هُوَذا مَلِكُكِ آتياً إِلَيكِ وَديعاً راكِباً على أَتان"(متى 21: 5). فالوداعة هي تعزية للمتعبين والمُرهقين. أمَّا عبارة "فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض" فتشير الى الودعاء الذين هم يسيطرون على الأرض بعيدا عن روح الانتقام والخصام والفَسادِ بل "بِنَفسٍ وادِعَةٍ مُطمَئِنَّة" (1 بطرس 3: 4)؛ أمَّا ذوي الأخلاق الشريرة فيُطردون من أرضهم. ويحتمل ان الوعد بالأرض يتضمن الوعد بالسماء التي كان الارض رمز لها. وفي هذه التطويبة فيما العالم يطلب السعادة في القوة، يسوع يضع السعادة في الوداعة، وذلك عن طريق حمل نير المسيح "اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم" (متى 11: 29).
5 طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون
تشير عبارة "الْمَحزُونين" الى الذين يحزنون على الخطيئة والشرور الناتجة عنها (زكريا 12: 10). وبالتالي فيه لا تدل هنا على الحزن المادي بل على الحزن الروحي"، حيث يدرك المرء خطاياه ويشعر أنه بحاجة الى التوبة الصادقة. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " لأَنَّ الحُزْنَ للهِ يُورِث تَوبَةً تُؤَدِّي إِلى الخَلاص ولا نَدَمَ عَلَيها، في حِينِ أَنَّ حُزنَ الدُّنْيا يُورِثُ المَوت" (2 قورنتس 7: 10)، ويُعلق القديس لاون الكبير البابا في التطويبات " إنَّ الحزنَ الذي يُكافَأُ بالعزاءِ الأبديِّ ليسَ الحزنَ الناجمَ عن همومِ هذا العالم، إنما هو البكاءُ أمامَ الله إمَّا بكاءٌ على الذاتِ أو على خطيئةِ الغيرِ. يحزنُ المؤمنُ لمِا يرتكبُ الناسُ من معاصٍ" (العظة 95،4-6: PL 54،462-464). ولا تدل أيضا عبارة "الْمَحزُونين" على أصحاب المزاج السوداوي، بل تدل أيضا على هؤلاء الذين هـم تحت تبكيت الخطيئة او الذين "يتنهدون" “وينوحـــــون" علــــى حالة العالم الخاطئة كما كانت حــــالة بولس الرسول، الذي أمضى سنوات خدمته يبكي دُمـوعـاً مــــن أجـــــل خلاص إخوته، كمـــــا صرّح هو بنفسه " إِنَّ في قَلْبي لَغَمًّا شَديدًا وأَلَمًا مُلازِمًا. لقَد وَدِدتُ لو كُنتُ أَنا نَفْسي مَحْرومًا ومُنفَصِلاً عنِ المسيح في سَبيلِ إِخوَتي بَني قَومي بِاللَّحمِ والدَّم، لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة" (2 قورنتس 2: 4). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن يسوع يأمرنا أن نحزن ليس فقط على أنفسنا، وإنما أيضًا من أجل شرور الآخرين. هذه النزعة للحزن بسبب خطايا الآخرين إتّسمت بها نفوس القدّيسين مثل موسى وبولس وداود"؛ ويمـــكن تطبيقها أيضا على المسيحيين الذين يعانون الاضطهاد او التعيير بسبب إيمانهم، حيثُ ان التعزية تأتينا بواسطة الإيمان الكائن في قلوبنا، وبعد ذلك سننالها علنا في العالم الآتي في السماء. اما عبارة "يُعَزَّون" فتشير الى الذين يتعزَّون لشعورهم بالمغفرة كما ورد في المزمور " طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت. طوبى لِمَن لا يَحسُبُ علَيه الرَّبّ إِثْمًا ولا في روحِه خِداع" (مزمور 32: 1-2)، وسيتعزون في السماء (رؤيا 7: 13-17). وقد عبّر صاحب المزامير عن شعور المحزونين وتعزيتهــــــم بقولــــــه "الَّذينَ بِالدُموعِ يَــــــزرَعون بِالتَّهْليلِ يَحصُدونَ" (مزمور 126: 5). هؤلاء حزنهم مقدس والربّ يحوُّله لفرح روحي كما وعد تلاميذه "أَنتُم أَيضاً تَحزَنونَ الآن ولكِنِّي سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح." (يوحنّا 22:1). وهذه التعزية تستطيع وحدها ان تنجِّي المحزونين من أحزانهم كما جاء في نبوءة أشعيا "أُعَزِّيَ جَميعَ النَّائحين"(أشعيا 61: 2). فالعزاء الحقيقي يأتي من الرب. فالحزن هنا ليس بالضرورة شعوراً سلبيّاً إنمـا هو تعبيرٌ عن حركة داخليّة تمتاز بالبحث عن يسوع العريس والسعي المستمرّ الى الالتقاء به على مثال سمعان الشيخ، الرجل البار، الذي التقى بيسوع الطفل في الهيكل فعبّر عن تعزيته بقوله "الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ" (لوقا 2: 25). وفي هذه التطويبة الثالثة فيما العالم يطلب السعادة في أي ثمن، يسوع يضع السعادة في الحزن على الخطيئة وذلك عن طريق طلب رحمة الله " إِرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مَعاصِيَّ (مزمور 51: 3).
6 طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون
تشير عبارة "الجياع" الى الجوع للطعام الروحي أي معرفة الله ومعرفة المسيح كما قال المسيح "الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 17: 3)، فالجوع هو جوع لكلمة الله: "مكتوبٌ: ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله" (متى 4: 3)؛ وأمَّا عبارة "العِطاشِ" فتشير الى العطش الروحي أي الاشتياق لله كما ترنَّم صاحب المزامير " كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله" (مزمور 1:42)، ويُعلق القديس لاون الكبير البابا "ليس الكلامُ هنا على جوعِ الجسدِ، ولا يَتوقَّعُ العطاشُ المشارُ إليهم شيئًا من الأرض. ولكنَّهم يَطلبونُ أن يَشبعُوا من صلاحِ البِرِّ، وأن يلجُوا أسرارَ الملكوتِ الخفيّةَ، ورغبتُهم هي أن يمتلؤوا بالربِّ نفسِه. فقد سمِعَتِ الروحَ على لسانِ النبيِّ يقول: "ذُوقُوا وَانظُرُوا مَا أطيَبَ الرَّبَّ" (مزمور 33: 9)" (العظة 95، 6-8: PL 54، 464-465). أمَّا عبارة "البِرّ" فلا تشير الى بر الشريعة بل الى برِّ الله (أشعيا 51: 5). والبر ّ هو احترام حقوق الله والاستمرار في الأمانة لها، وهو يتضمن الديانة القلبية والقداسة والتسليم لإرادة الله والأمانة الجديدة والجذرية للعمل حسب شريعة الله خاصة بما يتعلق بالصدقة (متى 6: 2-4) والصلاة (متى6: 5-6) والصوم (متى6: 16-18). ولكلمة "برّ" أهمية كبرى في المفردات انجيل متى، إذ انها تكررت خمس مرات في العظة على الجبل. لا يستعمل انجيل مرقس كلمة برّ، في حين ان انجيل لوقا يستعملها مرة واحدة في التطويبات. فالبِرُّ في سياق النص هو التطلع التام الى حياة مطابقة لمشيئة الله، مع مراعاة حقوق الله علينا. ألم يقل المسيح "فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه، تُزادوا هذا كُلَّه "(متى 6: 33). وخير مثال لنا في الجوع والعطش الى البرِّ هو يوحنا المعمدان كما أعلن عنه السيد المسيح "فَقَد جاءَكُم يوحَنَّا سالِكاً طريقَ البِرّ"(متى 21: 32). والبرّ في الرمز الروحي هو السيّد المسيح نفسه الذي هو برّنا الكامل. ومن تذوق حضور الرب في حياته يترنم مع صاحب المزامير" ذوقوا واْنظروا ما أَطيَبَ الرَّبَّ" (مزمور 34: 9). فنحن في جوع وعطش الى المسيح كما جاء في تعليمه "مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً." (يوحنا 6: 35). أمَّا عبارة "يُشبَعون" فها صدى في سفر أشعيا "لا يَجوعونَ ولا يَعْطَشون، لِأَنَّ راحِمَهم يَهْديهم (أشعيا 49: 10). فالله يُشبع الجياع والعطاش الى البرِّ أي الحياة بحسب مشيئة الله وكلامه كما جاء في نبوءة عاموس النبي "ها إِنَّها سَتَأتي أَيَّامٌ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ أُرسِلُ فيها الجوعَ على الأَرْض لا الجوعَ إِلى الخُبزِ ولا العَطَشَ إِلى الماء بل إِلى استماع كَلِمَةِ الرَّبّ"(عاموس 8: 11). كذلك تشير اشباع الجوع والعطش كعمل خير تجاه كلّ إنسان كما صرَّح يسوع “لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني... الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 35، 40)، ويُشبع في الدنيا الآخرة كما يُعلق القديس أوغسطينوس " هناك أرُدُّ له ما يُحِبُّ، أردُّ له ما يشتهي. هناك يَرى ما يؤمنُ به حتى الآن من غيرِ أن يراه. إذا جاعَ سيأكلُ، وإذا عطِشَ فسيرتوي. أين يكونُ ذلك؟ بعدَ قيامةِ الموتى، لأنّي "أقِيمُهُ فِي اليَومِ الآخِرِ" (يوحنا 6: 54) (في إنجيل القديس يوحنا 26، 4-6: CCL 36، 261-263). وفي هذه التطويبة فيما يطلب العالم السعادة في السعي وراء الحاجات الشخصية، يسوع يضع السعادة في العدالة والصلاح وذلك عن طريق الروح القدس "فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرسِلُه إِلَيكُم. وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة" (يوحنا 16: 7-8).
7 طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون
تشير عبارة "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون" الى صيغة مشابهة وردت في رسالة يعقوب الرسول "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2: 13). والرحمة التي يطالب بها متى الإنجيلي هي الغفران واسعاف من يعانون من ضيق. وأفضل توضيح لموضوع الغفران هو مثل "العبد القليل الشفقة": "أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟ " (متى 18: 33). فالرحمة التي نُبديها نحو الآخرين من شانها ان تؤمِّن لنا رحمة الله في الدينونة. واما في اسعاف المحتاجين الى عون فهو واضح في وصف الدينونة الاخيرة "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ" (متى 25: 31-46). يا لها من مشورة عادلة! فعلى الراغب معونة من هو أعظم منه، ان يساعد من هو أضعف منه فيما هو قوي فيه. اما عبارة "الرحماء" ليس فقط الى الذين يُظهرون الرحمة بتقديم المال، وإنما أيضًا الذين هم رحماء في تصرفاتهم وعملهم ومعاملتهم الغير؛ فالرحمة متعدّدة الأشكال فهي لا تُشير إلى مجرّد العطاء المادي أو حتى العاطفة، وإنمــــا إلى الإحساس بالآخر ومشاركته مشاعره، وتسديد احتياجاته وكأننا نحتل مكانهم، فنشعر بآلامهم وأتعابهم، كما فعل السيّد المسيح نفسه الذي رحمنا باقترابه إلينا وقبوله طبيعتنا وحمله آلامنا، لذلك يوصينا الرسول بولس قائلًا: "أُذكُروا المَسْجونينَ كأَنَّكم مَسْجونونَ مَعَهم، واذكُروا المَظْلومين لأَنَّكم أَنتُم أَيضًا في جَسَد" (عبرانيين 13: 3). وقيل أيضًا: " طوبى لِلرَّجُلِ الَّذي يَرأفُ ويُقرِض " (مزمور 112: 5). وفي مكانٍ آخَرَ: "طَوَالَ النَّهَارِ يَرأَفُ وَيُقرِضُ" (مزمور 36: 26). ويُعلق القديس غريغوريوس النازيانزي "لِنَنتَزِعِ البركةَ، وَلْنَكُنْ عقلاءَ، وَلْنَكُنْ رُحمَاءَ" (الخطبة 14، في محبة الفقراء)؛ وأمَّا عبارة "يُرْحَمون" فتشير إلى الله الذي يرحم الرحماء في يوم الدينونة. ان الرحمة التي يرحمون الغير بها يرحمهم الله إياها، وذلك ليس على سبيل الأجرة لان المستحقين اجرة لا رحمة. فالله يرحمهم مجانا. والرحمة تقوم ان يتقبل التلاميذ بعضهم بعضا ويغفروا بعضهم لبعض، على مثال الآب الذي يتقبَّلهم رغم ضعفهم وخيانتهم، كما الله يغفر "كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6:36)، ولا حدود إطلاقا لغفرانه (متى 18: 33). فيتوجب على التلاميذ أن يغفروا وان يزوروا المرضى ويشفونهم "كنت مَريضاً فعُدتُموني" (متى 25: 36)؛ وترد كلمة "رحمة" في ثمان مراجع كلّها خاصة بيسوع، ويتبيّن لنا أنّ رحمة يسوع موجّهة دائماً إلى فئتَين من الناس: المرضَى والخطأة. وليست هذه الرحمة نظريّة لكن فعّالة وعمليّة، وهي مبنيّة على واقع "الشفاء": الشفاء من المرض الخارجي (عمى وشلل، إلخ...)، ومن المرض الداخلي: الخطيئة؛ ولذلك أوصى البابا فرنسيس في ختام سينودس الأساقفة حول العائلة بقوله "إنَّ أوضاع البؤس والصراع هي بالنسبة لله فرصٌ للرحمة واليوم هو زمن الرحمة! فتلامذة المسيح مدعوون اليوم إلى وضع الإنسان في حالة اتصال مع الرحمة التي تُخلص. لذا من الأهمية أن نعيش على الدوام بروح موجّهٍ نحو الآخرين"؛ ولكـــن هذه الدينونة ستكون قاسية للذين لا يعرفون الرحمة "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم، فالرَّحمَةُ تَستَخِفّ بِالدَّينونَة"(يعقوب 2: 13). ومن لا يرحم أخاه لن يذوق من رحمة الله. وفي هذه التطويبة فيما يطلب العالم السعادة في القوة بلا عواطف، يضع يسوع السعادة في الرحمة عن طريق المحبة "وسِيروا في المَحَبَّةِ سيرةَ المسيحِ الَّذي أَحبَّنا وجادَ بِنَفسِه لأَجْلِنا" (أفسس 5:1-2).
8 طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله"
تشير "طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله" الى اقتباس من سفر المزامير "النَّقِيُّ الكَفَّين والطَّاهِرُ القَلْبِ الَّذي لم يَحمِلْ على الباطِلِ نَفسَه ولم يَحْلِفْ خادِعًا"(24: 4). فشروط التقرب الى الله ومشاهدته هي نقاء الكفَّين وطهارة القلب وعدم دفع النفس الى الباطل والكذب. فالإنسان لا يستحق الاقتراب من الله إلا بما في حياته من قداسة أخلاقية وتطهير قلبه. ويؤكد يعقوب الرسول هذ الترابط بين الفكر والعمل بقوله " اقتَرِبوا مِنَ اللهِ يَقتَربْ مِنكم. طَهِّروا أَيدِيَكم أَيُّها الخاطِئُونَ ونَقُّوا قُلوبَكم يا ذَوي النَّفْسَين" (يعقوب 4: 8)؛ فالقلب والكف يُشكلان مركز الأفكار وأداة الاعمال. ويُعلق القديس ثيوفيلس الأنطاكي " مِثلَ المِرآةِ النقيَّةِ، كذلك يجبُ أن تكونَ نفسُ الإنسانِ نقيَّةً. فإذا وُضِعَتِ الخشبةُ أمامَ المِرآةِ، لا يُمكِنُ للإنسانِ أن يَرَى وجهَه فيها. كذلك إن كانَتِ الخطيئةُ في الإنسانِ، فإنَّه لا يَقدِرُ معها أن يَرَى الله" (PG، 1026-1027). أمَّا عبارة "الأَطهار" في الاصل اليوناني καθαροὶ (معناها التطهير الغسل كإزالة الأوساخ من الملابس) فتشير الى النقاوة او الطهارة، والتجرُّدُ من الرذائلِ والميولِ المنحرفةِ والابتعادُ عن كلِّ شر وتعني أيضًا تنقية ما هو صالح ممّا هو رديء كفصل الحنطة عن التبن. هكذا قلب المؤمن يغسله ربنا يسوع المسيح بدمه من كل شائبة؛ أمَّا عبارة "القلب" فتشير في مفهوم الكتاب المقدس الى مركز حياة الانسان في صميمه وفكره وذاكرته ومشاعره وقرارته (لوقا 2: 19و35 و51). والقلب يشمل العقل والإرادة والشعور. أمَّا عبارة "لأَطهارِ القُلوب" فهي لا تشير الى طهارة الطقسية بل الى طهارة القلب والكمال الأخلاقي واستقامة الحياة الشخصية التي تُبعده عن القلب الملتوي والأمور الخاطئة. وطهارة القلب لا تتم عن طريق غسل الجسد بالتطهر الطقسي حسب شريعة موسى بل عن تطهير القلب بالتوبة والايمان وفعل الروح القدس " فما أَولى دَمَ المسيحِ، الَّذي قَرَّبَ نَفْسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُرْبانًا لا عَيبَ فيه، أَن يُطَهِّرَ ضَمائِرَنا مِنَ الأَعمالِ المَيْتَة لِنَعبدَ اللهَ الحَيّ! " (العبرانيين 9: 13). ويوضِّح المفكر الأخلاقي والفيلسوف الروسي ليو تولستوي هذه الفكرة بقوله " ليس الكمال الأخلاقي الذي يبلغه المرء هو الذي يُهمنا، بل الطريقة التي يبلغه بها". الله ينظر الى القلب بينما ينظر الانسان الى الخارج "أَنَّ الرَّبَّ لا يَنظُرُ كما يَنظُرُ الإِنْسان، فإنَّ الإنْسانَ إِنَّما يَنظُرُ إِلى الظَّواهِر، وأَمَّا الرَّبُّ فإِنَّه يَنظُرُ إِلى القَلْب "(1 صموئيل 16: 7)؛ ويُعلق القديس يوحنـــــا الذهبي الفم "أطهار القلوب أو "الأتقياء" هم من حصلوا على كل فضيلة، أو الذين لا يحملون أي مشاعر شرّ فيهم، أو الذين يعيشون في العفّة. فإنه ليس شيء نحتاج إليه لمعاينة الله مثل الفضيلة الأخيرة". فاستقامة حياة الانسان الشخصية تدلُّ على نيَّتِه الصافية ونزاهتِه (رومة 12: 8). فطاهر القلب ينظر الى الله وشريعته (متى 6: 22)، ويصون نفسه من النجاسات الآتية من باطنه كالأقوال الجارحة او الكاذبة (متى 15: 8) "كالمقاصد السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم"(متى 15: 19). ويُعدِّد القديس أوغسطينوس الأمور التي تُعكّر صفاء قلبك "الشهوة والبُخل والإثم واللذّة العالميّة؛ هذا كلّه يُعكّر عين القلب ويغلقها ويعميها". ولذلك تشير طهارة القلب أيضا الى الامتناع عن الخطيئة وعدم الاحتكاك بها؛ وهي تعتمد على الزهد والتجرّد والابتعاد الجذري عن كلّ أمر مدنِّس للقلب. إن جميع هذه الانحرافات ليست مجرد فساد شخصي يُنظر اليه من وجهة تأثيره في الافراد، بل هي أيضا نيل من كرامة القريب. فالتلميذ الحقيقي يعبّر عن الطهارة الشخصية في علاقته مع القريب. وبعبارة أخرى إن الله يطلب النقاوة في الكيان الجوهري في الإنسان. ولا ينال الانسان ذلك إلاّ بالولادة الجديدة (أي المعمودية). أمَّا عبارة "يُشاهِدونَ الله" فتشير الى أطهار القلوب الذين يعاينون الله بالإيمان، كما ترنَّم داود النبي "جَعَلتُ الرَّبَّ كُلَّ حين أَمامي إِنَّه عن يميني فلَن أَتَزَعزَع " (مزمور 35: 10)، نحن نعاينه هنا على الأرض بالإيمان أمَّا في السماء فسيكون هذا عيانا، نعاين الله بعد الموت وجها لوجه كما جاء في تعليم القديس يوحنا الرسول "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1يوحنا 3: 2). ويوضِّح ذلك بولس الرسول فيقول "فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12). وهذه الرؤية لوجه الله هي مشاهدة طقسية بالمثول امام الله لتأدية العبادة في الهيكل السماوي على مثال الملائكة والتمتع بألفة كما يؤكد صاحب الرؤيا "عَرشُ اللهِ والحَمَلِ سيَكونُ في المَدينة، وسيَعبُدُه عِبادُه ويُشاهِدونَ وَجهَه، ويِكونُ اسمُه على جِباهِهم " (الرؤيا 22: 3-4) ويُعلق القديس غريغوريوس النيصي "في مفهومِ الكتابِ المقدس، الرؤيةُ تعني الحصولَ على الشيء. والمثالُ على ذلك في قولِه: "فتَرى أورشليمَ وتنعَمُ بالخيراتِ" (مزمور 127: 5). فالرؤيةُ تَعني الحصولَ على الخيراتِ والتنعُّمَ بها. من رأى الله إذًا حصلَ على كلِّ الخيرات، لكونِه رأى. مَن رأى الله حصلَ على الحياةِ التي لا نهايةَ لها، وعلى عدم الفساد الأبدي، والسعادةِ الخالدة، والمُلكِ الذي لا ينتهي، فيه الفرحُ والنورُ الحقيقيُّ والأنغامُ الروحيةُ العَذْبة، والمجدُ الذي لا يُدرَكُ، والبهجةُ الدائمة، وأخيرًا كلُّ خيرٍ ممكن" (العظة 6 في التطويبات) "؛ ولهذا يقول بولس الرسول أيضًا: أُطلُبوا السَّلامَ معَ جَميعِ النَّاس والقَداسةَ الَّتي بِغَيرِها لا يَرى الرَّبَّ أَحَد" (عبرانيين 12: 14)؛ وقال يسوع “مَن رآني رأَى الآب. فكَيفَ تَقولُ: أَرِنا الآب؟ أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ " (يوحنا 14: 9)، ويعلق القديس ايرينيوس "لكن لا أحدَ يَقدِرُ أن يَرى اللهَ ويحيا (خروج 33: 20)، لعظمتِه تعالى ومجدِه الذي يَجِلُّ عن الوصف، ولأنَّ الآبَ أسمى من أن يُدرَكَ. ومع ذلك، بسببِ محبَّةِ الله، ولأنَّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء، فهو يَمنَحُ هذا أيضًا لمن يُحِبُّونه، يَمنَحُهم أن يشاهدوه، "مَا يُعجِزُ النَّاسَ فإنَّ اللهَ عَلَيهِ قَدِيرٌ" (لوقا 18: 27) "(الكتاب الرابع، 20، 4-5). وفي هذه التطويبة فيما يطلب العالم السعادة في الخداع، يضع يسوع السعادة في نقاء القلب وذلك عن طريق ان نكون "مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله" (1يوحنا 3: 2). ولذلك يوصينا القديس أوغسطينوس "لنُنقِّ قلوبنا بالإيمان، لكي نتهيأ لذاك الذي لا يُوصف، أي للرؤيا غير المنظورة".
9 طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون.
تشير عبارة "لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام" إلى أولئك الذين لا يعيشون لأنفسهم بل يهمّهم مصير الآخرين ويملكون في قلوبهم رغبة عظيمة تتجلى في عيش الجميع حياة سلام ووئام. فهؤلاء يصنعون السلام بين الله والناس، ويصالحون المتخاصمين مع بعضهم البعض ويجتهدون على "المُحَافَظَةِ عَلَى وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلامِ" (أفسس 4: 3)، على خطى السيد المسيح، رئيس السلام الذي جاء ليؤسِّس ملكوته على الأرض وهو ملكوت السلام. ودُعِيَ أسمُه رَئيسَ السَّلام (أشعيا 9: 5)، وإنجيله هو "بِشارةِ السَّلام" (أفسس 6: 15)، وملكوته "مَلَكوتُ بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 14: 17)، لذلك لا تنطبقُ هذه التطويبةُ، على كلِّ تفاهمٍ أو اتفاقٍ أيًّا كانَ. ولكن على ما يشيرُ إليه الرسولُ بولس حين يقول: "ليكُنْ فيكم السلامُ الذي يؤدِّي إلى الله" (رومة 5: 1). ويوضِّح ذلك القديس ايرونيموس: "المسيح ربّنا هو السلام. لنحفظ السلام فيحفظنا السلام في المسيح يسوع". وأبناء الله يعملون لنشر السلام بين الناس ومساعدتهم على التصالح وعلى العيش في انسجام. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "عمل الابن الوحيد أن يُوحِّد المنقسمين ويصالح الغرباء". أمَّا ثمن هذا السلام فهو دمه الثمين المبذول على الصليب. وصُنع السلام ليس عملًا خارجًا يمارسه الإنسان، وإنما هو سلام داخلي يحلّ بين الروح والجسد بالروح القدس في المسيح يسوع. وفي هذا الصدد يقول القديس أوغسطينوس "يكون كمال السلام حيث لا توجد مقاومة. فأبناء الله صانعوا سلام في داخلهم يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للعقل والروح، ويُقمعون شهواتهم الجسديّة تمامًا، إذ لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأمور الدنيوية ما لم يُخضع ذاته لمن هو أعظم منها، هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام!". في الواقع، يستحيل على الانسان أن يحكم من هم دونه إن لم يخضع لمن هو أعلى منه، وذاك هو السلام الذي يهبه الله في الأرض لذوي الإرادة الصالحة الذين يخضعون لله في فكرهم وروحهم؛ أمَّا عبارة "السلام" لا تعني فقط عدم الحرب، وإنما تدل على الهناء في الحياة اليومية، ووضع الانسان الذي يعيش في وئام مع الطبيعة، ومع نفسه، ومع الله. وبصورة واقعية، هو بركة، وراحة، ومجد، وغنى، وخلاص، وحياة ونظام بين حقوقه وواجباته. إنّ المصطلح "فاعل السلام" لا يرد إلا مرّة واحدة في العهد الجديد: في الرسالة الى أهل قولسي "وقَد حَقَّقَ يسوع السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه" (قولسي 1: 20). ومن هذا المنطلق فانَّ القيام بفعل السلام يقتضي بذل ذات والتضحية التامّة: تضحية قد تقود المؤمن الى الاستشهاد، من أجل مصالحة البشر مع الله ومصالحة الانسان مع أخيه الانسان. وفي التطويبة السابعة فيما يطلب العالم السعادة في السعي وراء السلام الشخصي دون مبالاة بحرب العالم، يضع يسوع السعادة في السلام العام وذلك عن طرق مسالمة كل الناس وعدم الانتقام والتغلب على الشر بالخير. "سالِموا جًميعَ النَّاسِ إِن أَمكَن، على قَدْرِ ما الأَمرُ بِيَدِكم. لا تَنتَقِموا لأَنْفُسِكم... لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 9-21) وكل من يصنع سلامًا فهو ابن لله. أمَّا عبارة "فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون" فتشير الى صانعي السلام والمتَّحدين في الخيرِ، والمتَّفقين في القداسةِ هم أبناء الله. هؤلاء يستحقُّون أن يُدعَوْا بالاسمِ الأبديِّ أي "أبناءَ الله وورثةَ المسيح" (رومة 8: 17).
10 طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات
تشير عبارة "المُضطَهَدينَ على البِرّ" في الأصل اليوناني δεδιωγμένοι فتشير الى الذين يتكبّدون من اجل المسيح عذاباً ويُطردون من اجل تمسكهم بالحق وامانتهم لله ولواجباتهم فيدخلون في بنوَّة الله، لانّ في الاضطهاد ينال المؤمنون "البنوّة الإلهيّة اذ قال يسوع: "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 44-45). وأبناء الله هم المتحدون بالابن البكر يسوع المسيح ونالوه "إِذا أبغَضَكُمُ العالَمُ فَاعلَموا أَنَّه أَبغَضَني قَبلَ أَن يُبغِضَكم" (يوحنا 15: 18) "وإِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20)؛ وبكلمة أخرى طوبى للمُضطَهد الذي يعمل البر ويقوم بأعمال صالحة، إذ فليس كل من قُتل شهيداً لمجرد القتل، بل من قُتل لأجل ايمانه، ومن تألم كي يصبح العالم مكانا أفضل للعيش، لأنه يجعل أصحاب العالم قريبين من الله. ومن هذا المنطلق فإن محبّة الأعداء والصلاة من أجل المضطهِدين هما بابان للدخول في الشركة الإلهيّة. وبالتالي نصبح إخوة يسوع بقدر ما نتضامن معه في تحمّل نير الاضطهاد ومحبّة الأعداء. والمسيحي يوصف باستمرار كشخص مُعرَّض للطرد وللاضطهاد في صيته وماله وحياته. اما عبارة "فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات" فتشير الى الذين هم مُضطهدين لأجل الله، والذين احتملوا المظالم من اجل الانجيل وبرهنوا انهم مسيحيِّون حقيقيون. في هذه التطويبة فيما يطلب العالم السعادة في التزامات ضعيفة، يضع يسوع السعادة في الأمانة والتقوى "فَجَميعُ الَّذينَ يُريدونَ أَن يَحيَوا حَياةَ التَّقْوى في المسيحِ يسوعَ يُضطَهَدون" (2 طيموتاوس 3: 12).
11 طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي
تشير عبارة "طوبى لكم" الى تطبيق مباشر على التلاميذ الذين هم يواصلون عمل الأنبياء وعمل يسوع في حينه. إذ ينتقل متى الإنجيلي من صيغة الغائب (طوبى للمضطهدين) الى صيغة المخاطب (طوبى لكم). بعدما وجّه المسيح كلامه فيما تقدم الى عموم تلاميذه صرّح الآن ان ذلك يُطلق على سامعيه فرداً فرداً. فيوجّه السيد المسيح الكلام بصفة خاصة للحاضرين، هذا تشجيع لهم كي يحتملوا ما سيواجهون من ضيق كأبناء لله وبالتالي يصبحون شركاء الاضطهاد وشركاء للمجد " فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17)؛ أمَّا عبارة "شتموكم" في الأصل اليوناني ὀνειδίσωσιν (معناها عيَّروا) فتشير الى التعيير في وجودهم ودعوهم بالقاب مهينة وشريرة على مسمع منهم. أمَّا عبارة "افْتَرَوْا علَيكم" فتشير الى قولهم عليكم في غيابكم كذباً؛ وأمَّا عبارة "كُلَّ كَذِبٍ" فتشير الى القيام عليكم الدعاوي الكاذبة وينسبون اليكم كل انواع العمل الشرير واتهامات باطلة، وتزييف الحقائق بقصد الخداع وهو عكس الصدق. لا سعادة للإنسان في ان يكون مضطهدا، إلاَّ ان لم تكن اعماله السيئة التي تُسبب له هذا الاضطهاد. اما عبارة " مِن أَجلي" فتشير الى أَجلِ ابنِ الإِنسان (لوقا 6: 22). ستعود عليهم آلامهم بمكافأة خاصة، لأنهم يعانون من اجل المسيح وإخلاصا ليسوع المسيح كما جاء في تعليمه " وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25) ويوضّح بولس الرسول التضامن بين الألم من اجل المسيح وعربون السعادة الأبدية "لأَنَّه أُنعِمَ علَيكُم، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن تَتأَلَّموا مِن أَجلِه، لا أَن تُؤمِنوا بِه فحَسبُ " (فيلبي 1: 29) وفي موضع آخر يقول " ولِذلِك فإِنِّي راضٍ بِحالاتِ الضُّعفِ والإِهاناتِ والشَّدائِدِ والاِضطِهاداتِ والمَضايِقِ في سَبيلِ المسيح" (2 قورنتس 12: 10) ، فنحن المسيحيين شُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17) ، ويؤكد بطرس الرسول هذه التطويبة: " افرَحوا بِقَدْرِ مما تُشارِكونَ المسيحِ في آلامِه، حتَّى إِذا تَجَلَّى مَجْدُه كُنتُم في فَرَحٍ وابتِهاج. طوبى لَكم إِذا عَيَّركم مِن أَجْلِ اسْمِ المَسيح"(1 بطرس 4: 13-14).
12 اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم.
تشير عبارة "اِفَرحوا وابْتَهِجوا" الى الفرح بالله والابتهاج كما فرح الرسل وابتهجوا، لأنهم حُسبوا أهلًا أن يُهانوا من أجل اسم المسيح كما حدث مع الرسل: "أَمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم"(أعمال الرسل 5: 41). ويعلق القدّيس توما الأكويني: "لا يستطيع أيّ إنسان أن يعيش دون فرح. ولهذا فإنّ أي شخص محروم من الفرح الروحي يلاحِق الملذّات الجسديّة". اما عبارة "وابْتَهِجوا" فتشير الى اقصى درجات الفرح بدلا من الخوف والكآبة. هذه الكلمات عزَّت ألوفاً في ضيقهم. أمَّا عبارة "أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم" فتشير الى الحياة الوافرة الذي وعد بها يسوع "أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنّا 10، 11)؛ ان الاضطهاد ليس سبب فرح ولكن نتيجته الموعود بها تسبِّب اجراً ليس كأنهم استحقوه ولكن كأنه ربح يقابل ما خسروه. اما عبارة "في السَّمَواتِ" فتشير الى خير الجزاء والثواب، لان الأرض مكان التعب والضيقات. أمَّا عبارة "اضْطَهدوا الأَنبِياءَ" فهي تشير الى اليهود الذين لم يؤمنوا وشنُّوا الاضطهادات على الأنبياء (مثل أيليا، ارميا، دانيال) حتى استشهادهم؛ وكثيراً ما يذكر يسوع أيضا استشهاد الأنبياء (لوقا 11: 47-51 و13: 33). ويطلب منا يسوع أن نفرح عندما نُضطهد؛ فالاضطهاد قد يكون خيراً لنا، لأنه يقوِّي إيمان من يحتملون، ويُقدِّم مثالا للآخرين حتى يحذوا حذونا ويُعزّينا بان أعظم الأنبياء قد اضطهدوا، فكما اضْطَهدوا الأَنبِياءَ فكذلك قد يتعرض التلاميذ الى الاضطهادات (متى 23: 34). وأخيرا نحصل على مكافأة الملكوت السماوي حيث لا اضطهاد بعد. وتعلق القدّيسة تريزا من آفيلا َّ "لا تدع أيّ شيء يزعجك، لا تدع أيّ شيء يُخيفك؛ جميع الأشياء تمضي: الربّ لا يتغيّر. يحقّق الصبر كلّ ما يكافح من أجله. من لديه الربّ لا يُعوزه شيء، الربّ وحده يكفي". وفي هذه التطويبة يشير يسوع الى ان من يرغب ان يسلك طرق التطويبات لا بد ان يواجه اضطهاد ومعارضة. وإذا شعرنا بالحزن، لنستغيث بروح المسيح الذي فينا، ولنصلي مع صاحب المزامير " لِماذا تَكتَئِبينَ يا نَفْسي وعلَيَّ تنوحين؟ إِرتَجي اللهَ فإِنِّي سأَعودُ أَحمَدُه وهو خَلاصُ وَجْهي" (مزمور 42: 6). ولنتذكّر أن الذين يفارقون الجسد، يعيشون مع إله الكل كما جاء في تعليم بولس الرسول "فنَحنُ إِذًا واثِقون، ونَرى منَ الأَفضَلِ أَن نَهجُرَ هذا الجَسَد لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ" (2 قورنتس 5: 8). اما عبارة "الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم" فتشير الى ابتاع العهد القديم الذين هم خلفاء انبياء العهد القديم في آلامهم. وما يقوِّي المؤمنين وقت الاضطهاد هو شعورهم بأنهم أبرياء وان المسيح معهم وهو يعزِّهم. ان المسيحيين يشاركون في الآلام الأنبياء والرسل يل المسيح نفسه لأنهم يشربون من الكأس التي شربها. تكمل هذه الآية ما ورد في الآية السابقة فضيفاتهم لا تستوجب الحزن بل تستوجب الفرح لان السميح بأمرهم بذلك.
ثانيًا: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 5: 1-12)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 1-12)، نستنتج انه يتمحور حول التطويبات كدستور للحياة المسيحية، ويحدِّد هذا الدستور سلوك التلميذ الكامل كي ينال سعادة الملكوت (متى 5: 1-7: 29). ويُعلق العلامة أوغسطينوس" فيها كل المبادئ السامية اللازمة للحياة المسيحيّة الكاملة"؛ ومن هنا نسأل: ما هو مفهوم التطويبات كطريق للسعادة الحقة؟ أين تمّت عظة التطويبات؟
1) ما هو مفهوم التطويبات كطريق للسعادة الحقَّة؟
أ) مفهوم التطويبات
لفظة طوبى باليونانيةμακάριος هي كلمة من أصل عبري אַשְׁרֵי معناها: بركة او سعادة. وتستعمل لتهنئة شخص لعطية نالها (متى 13: 16 و16: 17) او لتبشير فئة من الناس بالسعادة (متى 11: 6). وكثيرا ما وردت في الاناجيل "فَطوبى لِمَن آمَنَت" (لوقا 1: 45)، "طوبى لِلبَطنِ الَّذي حَمَلَكَ، ولِلثَّدْيَيْنِ اللَّذَينِ رَضِعتَهما فقال: ((بل طوبى لِمَن يَسمَعُ كَلِمَةَ اللهِ ويَحفَظُها!" (لوقا 11: 27-28). وليس المقصود بـ"طوبى" أمنية أو وعد، بل معاينة السعادة والمناداة بها. وليس المقصود بالسعادة هو الامتلاك، السعيد هو من يملك ما يشتهي. وليس أيضًا في القناعة والاكتفاء بما لدى الانسان، لأن الساعدة التي تأتي على ذكرها التطويبات لا تنافي المعاكسات والالام والاضطهادات.
يبدو ان سعادة المسيحيين تتضّمن ثلاثة مفاهيم: أولا ان يكون امام الانسان مستقبل زاهر لان لهم رجاء بالمعنى الذي يقصده بولس الرسول "كُونوا في الرَّجاءِ فَرِحين" (رومة 12: 12)، لان التطويبات موجّهة الى المستقبل بفضل الوعد الذي يتضمنه الشطر الثاني من كل تطويبة. مثلا تعد التطويبة السابعة للساعين الى السلام أنهم سيدعون أبناء الله. فالتطويبة تبدو قبل كل شيء سعادة مرتبطة بوعد ناتج عن رجاء، وهي سعادة موجَّهة الى المستقبل، تسبق بالرجاء ما لا بدَّ ان يأتي. ثانيا: التطويبة موجَّهة الى فئات معيَّنة من الأشخاص يمتازون بأوضاعهم او بأحوالهم الباطنية، وعليهم يُعرض هذا الرجاء. وثالثا: بالإضافة الى التأصل في الحاضر والانفتاح على مستقبل فالسعادة ترتبط بماض معين وهي حقيقة تعكس الاختبار الذي قام به يسوع في حياته البشرية؛ يسوع يعلم بما يتكلم، والسعادة التي يتكلم عنها يسوع هي سعادته الشخصية، سعادة فيها مكان للصليب وتنبعث بالنسبة الينا من الرجاء الذي يهبه لنا بصليبه، سعادة تكون على قدر إيماننا به. ألم يقل لتلاميذه " لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً. (يوحنا 15: 11).
السعادة في التطويبات لا تعني مجرّد غبطة أو شعورٌ غامرٌ بالفرح والسرور، وإنَّما هي سِمة تمسّ طبيعة الشخص، وحياته الداخلية، وليس مجرّد سعادة نتيجة لظرف خارجي يحيط به؛ فالرب لا يقدّم لتلاميذه فقط مكافآت خارجيّة، إنّما مكافآت تمسّ طبيعتهم الداخليّة من جوانب مختلفة. فيحملون طبيعة الرحمة التي لله فيهم وسلامه ونقاوته. فكل مطوّب ينال كل المكافآت بسبب التطويبة التي عاشها. ويوضِّح ذلك القديس أوغسطينوس "جميع المطوّبين سيعاينون الله، ولكنهم لا يعاينوه بسبب فقرهم بالروح أو وداعتهم أو حزنهم أو جوعهم أو عطشهم للبرّ أو رحمتهم، إنّما يعينوه بسبب نقاوة قلبهم. فالتواضع يؤهل لامتلاك ملكوت السماوات، والوداعة تؤهل لامتلاك الأرض، والحزن لنوال التعزية، والعطش والجوع إلى البرّ للشبع، والرحمة لنوال الرحمة أيضًا من الرب، ونقاوة القلب لمعاينة الله". ومن هنا جاء لقب "طوباوي" الذي يطلقُ على كل من عاش سيرة صالحة على خطى السيد المسيح. ومن هذا المبدأ لا يمكن ان نتصور ان يكون الانسان تلميذ المسيح ولا يكون سعيدًا.
ب) التطويبات في العهد القديم
وتعبّر التطويبات في اسفار العهد القديم عن البشرى بالفرح المُقبل كما جاء في نبوءة دانيال "طوبى لِمَن يَنتَظِرُ" (دانيال 12: 12) او عن الشكر على الفرح المقبل كما جاء في سفر مزامير "طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت. طوبى لِمَن لا يَحسُبُ علَيه الرَّبّ إِثْمًا ولا في روحِه خِداع (مزمور32: 1-2) او عن الوعد بمكافأة "طوبى لِلإِنْسانِ الَّذي وَجَدَ الحِكمَة وللإِنْسانِ الَّذي نالَ الفِطنَة" (أمثال 3: 13). وتقصد التطويبة دائما فرحا يمنحه الله. لكن مفهوم السعادة العهد القديم تقوم على غنى الانسان: أبناء شعب العهد القديم، كانوا مقتنعين بأن السعادة تأتي من الله، وهكذا يكون الإنسان سعيدًا عندما يكون غنيًا وقادرًا ولديه العديد من الأبناء، بالإضافة إلى الخيرات الأخرى ومتممًا للشريعة وخادمًا لقريبه. وأيوب البار رفض بشكل جذري هذا التفسير واثقًا بأن الله لا يمكن أن ينزل المصائب في الإنسان. لهؤلاء الناس الذين يعيشون في هذا المفهوم للسعادة يتحدث يسوع عن رسالة التطويبات: طوبى للفقراء، للحزانى، للجياع والعطاش، للودعاء، الخ.
تضعنا التطويبات في تحديات كونها دستور أخلاقي للتلاميذ، ومعيار لسلوك كل المؤمنين؛ لأنها تضع الانسان في موقف تحدي بين قيم الملكوت الابدية من وداعة ورحمة وسلام وقيم العالم الزمنية من مال وعنف وسلطة؛ وبين الايمان السطحي عند الفريسيين والايمان الحقيقي الذي يريده يسوع؛ يقلب يسوع كل فكرة العالم عن السعادة راسا على عقب. فالتطويبات تعلمنا ان السعادة الحقيقية ليست في الغنى أو الرفاهية أو المجد البشري أو السلطة، وليست في أي عمل بشري مهما كان مفيدا، من مثل العلوم والتقنيات والفنون، وليست في اية خليقة، وانما هي في الله وحده ينبوع كل خير وكل حب، لذا تضعنا أمام خيارات أخلاقية حاسمة. "وتعلن ما يحصل عليه التلاميذ من الآن بصورة غامضة من البركات والمكافآت. وهي قد بدأت في حياة العذراء مريم وجميع القديسين" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، بند 1717).
وتعبِّر التطويبات في الإنجيل المقدس عن تهنئة لعطية تمَّ منحها، او وعد لمن يتقبّل رسالة سيدنا يسوع المسيح "طوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة" (متى 11: 6). وبكلمة أخرى التطويبات تصف معنى تبعية المسيح، وهي معيار للسلوك، إذ "تنير الأفعال والمواقف التي تميّز الحياة المسيحية وتدعم الرجاء في المضايق " (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1717). ومن هذا المنطلق، أن التطويبات هي في النهاية رسالة. رسالة سلّمنا إياها يسوع لكي نتمم ما بدأ به. هذا يعني أنه لا يمكننا أن نتوقع من الله أن يلغي الفقر والفقراء، بل هذه هي مسؤوليتنا نحن.
لا يجوز للسلطات السياسية والاقتصادية استخدام التطويبات استخداما ميكيافيليا للمحافظة على النظام الاجتماعي القائم والتخلي عن الاعمال البشرية للهرب الى العالم الآخر. لان يسوع يتكلم في التطويبات على الله، على إله الفقراء الآتي ليقيم ملكوته. لذلك تدعونا التطويبات الى تنقية قلبنا من الغرائز الشريرة، والتماس محبة الله فوق كل شيء. ويعلق نيومان في خطابه عن السعادة "ان الغنى في يومنا هو الاله الاكبر، وكل الجماعة البشرية يقيسون السعادة بمقياس الغنى، وبمقياس الغنى ايضا يقيسون الكرامة. ويتأتى ذلك كله من اعتقاد ان الانسان الحاصل على الغنى يقدر على كل شيء. فالغنى اذن هو صنم من اصنام اليوم" وبالتالي فهو أحد تحديات الانسان امام السعادة الحقيقية التي تعرضها عظة التطويبات.
ج) التطويبات في العهد الجديد
وتتمركز التطويبات في انجيل متى في شخص المسيح وهويته ورسالته وملكوته. فهي مرتبطة بشخص المسيح كما جاء في تعليم يسوع "فَطُوبى لِعُيونِكم لأَنَّها تُبصِر، ولآذانِكم لأَنَّها تَسمعَ" (متى 13: 16). فجميع متطلبات الانجيل تعود الى مطابقة مشاعرنا على مشاعر المسيح الذي هو مثال كل حياة مسيحية. وتكمن السعادة في الكشف عن هويّة المسيح كما يظهر من جواب يسوع لبطرس عندما أعلن عن هويته "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متى 16: 15) فأجابه يسوع: "طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا" (متى16/17). وفي هذا الصدد يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية" ان التطويبات ترسم وجه يسوع المسيح وتصف محبته" (بند 1717).
المسيح نفسه هو أفضل تفسير للتطويبات. انه يفسِّرها بحياته. يعلق الراهب السِستِرسيانيّ إسحَق النجمة "فتح يسوع فمه ليتحدّث إلى قلب أورشليم: الغبطة ذاتها تتحدّث عن السعادة؛ والفقير الاختياري عن الفقر؛ والملك عن المملكة؛ والعذب عن العذوبة؛ والمُعزّي عن التعزية؛ والخبز الحقّ عن الشبع؛ وحتى الرحمة تتحدّث عن الرحمة؛ ونقاوة القلوب عن تنقية القلوب؛ والسلام الحقّ والابن من حيث الطبيعة عن المصالحة وعبادة الابن" (العظة الأولى لعيد جميع القدّيسين).
يسوع هو الفقير الذي "َلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" متى 8: 20)، وهو الحزين الذي عرق دمٍ في بستان الجسمانية "صارَ عَرَقُه كَقَطَراتِ دَمٍ مُتَخَثِّرٍ تَتَساقَطُ على الأَرض (لوقا 22: 44)، وهو الرحيم الذي مات على الصليب ويطلب الغفران لصالبيه "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34)، وهو الوديع ومتواضع القلب "اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم" (متى 11: 29)، ويسوع هو أيضًا الجائع والعطشان لخلاص النفوس "يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعًا فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟" (متى 25: 37)، وهو صانع السلام بين الله والناس "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 14: 27)، وهَدَمَ حاجِزَ العَداوة" (أفسس 2: 14). وهو الطاهر القلب "مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46).
فالتطويبات هي الطريق الى المسيح. التطويبات مرتبطة بالمسيح حيث ان السعادة هي أن ما تفكر، ما تقول، وماذا تفعل في انسجام مع المسيح وهو هدفها بعكس ما صرّح به العالم ألبرت أينشتاين" لو أردت أن تكون سعيدًا، قم بربطها بهدف وليس بشخص أو بشيء". إذنْ السعادةُ ليستْ في الزمانِ ولا في المكانِ، ولكنَّها في الإيمانِ، وفي طاعةِ الدَيَّانِ، وفي القلبِ والقلبُ محلُّ نظرِ الرَّبَّ.
التطويبات هي إعلان ودعوة للسعادة؛ والسعادة لا تكمن في الغنى ولا في التسلط ولا في الانتصار على الآخرين ولا في اختفاء الألم أو الاضطهاد، إنما في الاتحاد مع الآخرين، والسلوك في طريق الكمال، ولم يسلموا قلوبهم للحقد والحسد، وشفاههم للنميمة وتشويه صورة الآخرين: "مَن بِلِسانِه لا يَغْتاب وبِصاحِبِه لا يَصْنعُ شَرًّا وبِقَريبِه لا يُنزِلُ عارًا" (مزمور 15: 3).
وتبيّن عظة التطويبات هوية الذين هم في أفضل حال لنيل ملكوت الله. فهم ينقسمون الى فئتين: فئة الفقراء والودعـــــاء والرحماء والساعون الى السلام (مرقس 5: 3-9)؛ والفئــــة الأخـــــــرى، فئة المُضطَّهدين (مرقس 5: 10-12) التي ترتبط بالكنيسة في أيام متى التي عرفت الاضطهاد. وسيتم إدانتنا على تصرفنا نحو الجياع والعطاش والعراة والمشرَّدين والمرضى والسجناء "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40).
التطويبات هي مبادئ روحية. وكل مبدأ يتكوّن من وسيلة وهدف. يُشار الى الوسيلة بهوية الأشخاص الذين ينالون التطويبة او السعادة " طوبى للفقراء، للودعاء، للمحزونين، للجياع والعطاش الى البر، للرحماء، لإطهار القلوب، للساعين الى السلام وللمضطهدين. أمَّا الهدف فهو "السعادة" أو المكافأة الموعود بها وهي الملكوت السماوي والتعزية والرحمة، ومشاهدة الله. ان الله يدعونا الى سعادته الخاصة من خلال التطويبات. وهذه الدعوة موجهة الى كل واحد شخصيا. وتقوم السعادة بالإيمان والعمل بمشيئة الله، الايمان برسالة يسوع حول الملكوت "والفُقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة (متى11: 6)، وبالعمل مشيئته تعالى "طوبى لِذلكَ الخادِمِ الَّذي إِذا جاءَ سيِّدُه وَجَدَه مُنصَرِفاً إِلى عَمَلِهِ هذا!" (متى 24: 46).
د) التطويبات طريق سعادة الملكوت
السعادة على الارض
لا تقتصر السعادة على المستقبل بعد هذه الحياة على الأرض، حين تنتهي المشاكل وتُحلّ العقد. نجد السعادة على هذه الأرض، عندما نعيش رسالة التطويبات، وقد أعلن يسوع السعادة للفقراء والودعاء والمحزونين والمظلومين والمُضطهَدين والرحماء والساعين إلى السلام. لكن يكفي ان نلقي نظرة حولنا لنلاحظ ان الفقراء لا يزالون فقراء وكأن تبشير يسوع بالسعادة باء بالفشل.
في الواقع افتتح يسوع رسالة التطويبات لكنه عهد الى تلاميذه في متابعة رسالته. لذلك إن القضاء على الفقر وإلغاء الاضطهاد والظلم وإنهاء الحروب هي أمور لا تعود لله وحده، بل لنا، للإنسانية. غير ان الله يهدي ويهب القوة ويُحرك القلوب الذين يبذلون أنفسهم بمحبة في نشر تطويبات الإنجيل. وهكذا من خلالهم، يتشر الله رسالة التطويبات في هذا العالم. لذلك لا يحق لاحد ان يعترض عل فشل رسالة التطويبات في الأرض ما دام لم يبذل كل ما في إمكانه وبجميع الوسائل (من تقاسم الأموال والمسؤوليات والعمل النقابي او السياسي والمهني) في دائرة نفوذه، لكيلا يبقى فقراء والمظلومين والمُضطهَدين، يتوجب على كل مؤمن ان يُضفي معنى مسيحيا على مختلف نشاطاته البشرية في سبيل كرامة الانسان ونمو الشعوب وبالتالي يكون قد ساهم في تحقيق رسالة التطويبات على الارض.
السعادة في السماء
تقوم السعادة في الكتاب المقدس على دخول ملكوت الله في مجد المسيح وفرحه وراحته وبنوته والحياة الأبدية؛ وقد صرّح بولس الرسول ان السعادة تكمن في مجد المسيح "أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا" (رومة 8: 18)، والسعادة الأبدية هي عطيّة مجانية من الله ونعمته تعالى. ويعلق القديس ايرينيوس. "لا يراه أحد ويحيا"، لان الاب لا يمكن ادراكه؛ ولكنه بحسب محبته ورحمته للبشر وبحسب قدرته، يصل الى حد منح محبيه مزية معاينة الله لأن ما هو مستحيل عند الناس ممكن عند الله".
وتقوم السعادة في معاينة الله فحسب بل في فرح المسيح أيضا كما جاء في تعليم يسوع: " أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (متى 25: 21)، وتكمن السعادة أيضا في راحته "مَن دَخَلَ راحَتَه يَستَريحُ هو أَيضًا مِن أَعمالِه كَما استَراحَ اللّهُ مِن أَعمالِه فلْنُبادِرْ إِلى الدُّخولِ في تِلكَ الرَّاحَةِ" (عبرانيين 4: 10-11) وفي بنوته تعالى والتمتع في رؤيته ومعاينته "طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله" (متى 5: 8)، والتمتع بحياة الثالوث فنصبح مشاركين في الطبيعة الإلهية كما صرّح بطرس الرسل "إِنَّ قُدرَتَه الإِلهِيَّة مَنَحَتْنا كُلَّ ما يَؤُولُ إِلى الحَياةِ والتَّقْوى. ذلِك بِأَنَّها جَعلَتْنا نَعرِفُ الَّذي دَعانا بِمَجْدِه وقُوَّتِه فمُنِحْنا بِهِما أَثمَنَ المَواعِدِ وأَعظَمَها، لِتَصيروا بِها شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة في ابتِعادِكم عَمَّا في الدُّنْيا مِن فَسادِ الشَّهوة. (2 بطرس 1: 3-4) وفي الحياة الأبدية كما جاء في تعليم يسوع "الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 17: 3). ويُعلق القديس أوغسطينوس "هناك نستريح ونعاين، نعاين ونُحبّ، نُحبّ ونسبّح. ذلك ما سيكون في النهاية بلا نهاية. وأية غاية أخرى تكون لنا سوى البلوغ الى الملكوت الذي لا نهاية له؟"
السعادة هي هدف وجود الإنسان وغاية اعماله الإنسانية، وهي غــــــاية في حـــد ذاتها، ويقول ارسطو "أنَّ السعادة هي الهدف النهائي والناس يبحثون عنها أكثر من أي شيء آخر". فالله خلق الإنسان للسعادة لا للشقاء. والإنسان يميل في طبيعته الى السعادة. ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية "التطويبات تلبِّي الرغبة الطبيعية في السعادة. وهذه الرغبة هي من أصل إلهي، وضعها الله في قلب الانسان ليجتذبه اليه" (بند 1718)، ويصرّح العلامة توما الأكويني "الله وحده قادر على اشباعها"، ويؤكّد ذلك القديس أوغسطينوس في اعترافاته " بما انني في سعيي اليك، يا إلهي، أسعى الى الحياة السعيدة، فاعمل على ان اسعى اليك حتى تحيا نفسي، لأن جسدي يحيا من نفسي، ونفسي تحيا منك".
ولا يسعنا أخيراً الاّ نختتم بكلمات البابا القديس يوحنا بولس الثاني في عظته على جبل التطويبات يوم 24 آذار 2000 بقوله "اَعتَبِروا، أَيُّها الإِخوَة، دَعوَتَكم" (1 قورنتس 1: 16)، ويبدو وكأن عيش التطويبات في عالم اليوم مغامرة تفوق طاقاتكم. ولكن المسيح لا يقف متفرجاً، ولا يدعكم تواجهون وحدكم هذا التحدي! هو دائماً معكم ليحوّل ضعفكم إلى قوة. آمنوا ولتكن لكم الثقة فيه، هو القائل: "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف" (2 قورنتس 12: 9).
2) أين القى يسوع المسيح عظة التطويبات؟
أ) جبل التطويبات
يقول إنجيل متى "لمَّا رأَى يسوع الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه فشَرَعَ يُعَلِّمُهم التطويبات (متى 5: 1). يقع جبل التطويبات بحسب التقليد على تلة صغيرة تبعد 200م من بحيرة طبرية على طريق رقم 90. وهو يشكِّل مسرحاً طبيعيا يزيد على 1200م؛ وأمَّا ارتفاعه فيبلغ بنحو 800م؛ وهو مكان يتجاوب مع صدى الصوت الصادر من البحيرة (مرقس 4: 1)؛ وكان هناك عشب كثير (يوحنا 4: 10). وفي هذا المكان تفوه سيدنا يسوع المسيح بكلماته الخالدة ومبادئه عن السعادة في الحياة المسيحية الجديدة من خلال عظة التطويبات (متى 5: 1-5).
ب) المعالم الأثرية
أجرى في عام 1935 العالم الأثري الفرنسيسكاني الاب بلرمينو بغاتي الحفريات في المنطقة المقابلة لبوابة مزار كنيسة رئاسة القديس بطرس، واكتشف ديرًا صغيرًا وكنيسة بيزنطية يعود تاريخها الى نهاية القرن الرابع لها أرضية فسيفسائية مبنيّة على مغارة طبيعية. وبقايا هذه الارضية الفسيفسائية معروضة حاليا في كنيسة الفرنسيسكان في كفرناحوم. وتقول السائحة إيجيرية في مذكراتها سنة 383 أنّ المسيح القى عظة الجبل من فوقها. وللكنيسة جناح واحد تبلغ مساحتها نحو 7.02 4.48X؛ ولها حنية بارزة. وأعاد ترميمها البيزنطيون عام 600، لكن وهدمها الفرس وأُهملت في نهاية القرن العاشر.
وهناك عدة أدلَّة على صحة هذا الموقع: الدليل الاول: موقعه على مقربة من كفرناحوم الذي يتلاءم مع مواصفات الإنجيل (متى 5: 1؛ 8: 1؛ 14: 22-23، ومرقس 6: 46)؛ والدليل الثاني: وجود الكنيسة في هذا المكان بالرغم من صعوبة الموقع للبناء. وأمَّا الدليل الثالث فهو وصف إيجيرية يتلاءم لهذا الموقع: "في مكان غير بعيد عن كفرناحوم بقرب البحيرة هناك حقل مُخصب فيه اشجار النخيل الكثيرة، وهو ملاصق للينابيع السبع. وفي هذا الحقل أشبع الرب الشعب بخمس أرغفة وسمكتين". وللعلم ان الصخرة التي وضع عليها الرب الخبز تحوَّلت الآن الى مذبح. وعلى الجبل هناك يوجد مغارة عليها علَّم السيد المسيح التطويبات".
وفي الواقع كان موضع التطويبات واضح المعالم في القرن الرابع، لكن معالمه اخذت تتلاشى في القرن السابع كما يبدو من رسالة ايرونيموس، وذلك ربما لقرب الموقع من كنيسة تكثير الخبز التي تبعد عنه 50م. لسوء الحظ لا يتوافد الزوار الى هذا المكان، بل يفضّلون الحج الى قمة الجبل حيث مزار جبل التطويبات حاليًا.
ج) مزار جبل التطويبات
بنى المهندس الإيطالي انطونيو برلوتسي مزار التطويبات بين سنوات سنة 1936-1938. ويصف المهندس الموقع بقوله: "على الاثني عشر تل التي تحيط بالجهة الشمالية من البحيرة والذي تُحيي ذكرى عظة الجبل ومعجزة الخبز والسمك وكلام ومعجزات المسيح الكثيرة نشأ في عام 1938 مزار كنيسة التطويبات". ويشرف المزار على البحيرة على ارتفاع 200م بمناظره الخلابة والاماكن الإنجيلية حيث عاش المسيح الثلاثة سنوات الأخيرة من عمره في رسالته العلنية. انه مكان بسيط لكنه آية في الجمال ونموذج هندسي للبيئة والرموز.
والكنيسة مثمنة الشكل لذكرى عظة التطويبات الثمانية (متى 5: 3-10)، وجدار الكنيسة مبني من الحجارة البازلتية المحلية، وأما الاقواس فهي من الحجارة البيضاء المستوردة من الناصرة. ويعلو الكنيسة قبة مستندة على دعائم وانصاف اقواس للدلالة على عدم الكمال الانسان الذي يسعى الى الكمال المرموز اليه بالقبة. فالقبة المذهبة والبسيطة تتوسطها دائرة زرقاء التي ترمز الى تطويبات ملكوت السماوات التي يبلغها الانسان من خلال الوحي. فلتطويبات ما هي الا تكملة الوصايا العشر ومجدها وذروتها. ويخترق القبة ثمانية نوافذ زجاجية مكتوب عليها التطويبات. ويزين القبة في الوسط عين زرقاء يحيطها غيمة وردية رمز الملكوت. ويزين الجدران صور مراحل الصليب الاربع عشر من صنع الفنان اكيارديAchiardi . وتتوسط الكنيسة مذبح يعلوه قوس مبني من الالباستر رمز المجد.
وعلى المذبح بيت القربان موضوع على قاعدة مصنوعة من الرخام السماقي. ويتوسط جدران الكنيسة نوافذ كبيرة تسمح لمشاهدة البحيرة والتأمل بها لكل من يصلى من المذبح. ويغطي ارضية الكنيسة قطع فسيفسائية يحيطها بلاط من رخام يمثل نهر النعمة يجري من المذبح ويثمر الفضائل اللاهوتية (الايمان والرجاء والمحبة) والفضائل الرئيسية (القناعة القوة، العدل والفطنة) التي تدعم كل منها التطويبات. واما اعمدة الرواق فيه من الحجر والجيري الروماني.
وتوحي الالوان البيضاء والرمادية والخضراء لون البحيرة والتلال المحيطة بها. فهيئة المزار والوانه ينمُّ عن الفرح الروحي والجمالي الذي يبعث في النفس التأمل في حب الله الرحيم الذي حل بين البشر ليُعلمنا طريق الخلاص الذي استحقه السيد المسيح بدمه الطاهر الذي سفكه على الصليب.
وفي خارج الكنيسة صنع الفنان الإيطالي ناسوري عام 1983 لوحتين من الفسيفساء في ساحة الكنيسة: لوحة على اليمين تمثل الانطلاق من اورشليم الأرضية الى اورشليم السماوية (رؤيا 21: 2) من خلال تطبيق التطويبات الثمانية؛ وعلى اليسار لوحة أخرى تمثل كرمة عنب تحمل في طياتها مجموعات من الايقونات تصف في كل مجموعة ثلاث صور: شخص من العهد القديم وشخص من العهد الجديد واحد آباء الكنيسة عاشوا روح أحد التطويبات. فمثلا: نجد مجموعة تصف صورة النبي موسى المعروف في وداعته (عدد 12: 3) وصورة العشار المنسحق القلب (لوقا 18: 9-14)، وصورة القديس أمبروسيوس أحد آباء الكنيسة المعروف في وداعته وهكذا في كل مجموعة الخ.
الخلاصة
يقلب يسوع كل فكرة العالم عن السعادة راسا على عقب. تقوم السعادة في العالم على متطلبات ألا وهي التمتع بالصحة الجيدة ودخل كافٍ لمقابلة الاحتياجات الأساسية، وجود عاطفة في حياة الشخص، وانشغال الشخص بعمل منتج أو نشاط، وأهداف للحياة محددة وقابلة للتحقق وهذا جزء من اهداف التطويبات. ومن جهة أخرى تتناقض التطويبات مع أسلوب الحياة في المجتمع؛ فهي تتعارض مع كل ما يقدّمه العالم من بحث عن المال، عن التكبر والعنف، ويدعو الى التواضع والبحث عن السلام والرحمة والطهارة؛ هي مقارنة بين قيم الملكوت وقيم العالم موضحة ما يمكن ان يتوقعه تابع المسيح من العالم، وما يعطيه له الله وتوضح كيف تتحقق في ملكوت الله كل توقعات الانسان.
إن هدف رسالة التطويبات في إنجيل متى هي ان نكون سعداء. كيف؟ يدعو يسوع الى الثورة لا على المستوى الخارجي بتحريض الفقراء على الانتقام من الأثرياء بل على المستوى الداخلي، مستوى الوجدان والقلب، مستوى الانسان من الداخل. وهذا التحوُّل من المستوى الخارجي الى الداخلي هو حقا بمثابة ثورة، لأنه يقلب القيم والمفاهيم؛ ويبيّن أن عظمة الانسان الحقيقية متأصلة في الله. ولكي نحصل على السعادة فلا بدَّ من التقرب الى الله والعمل مشيئته الذي كشفها في ابنه سيدنا يسوع المسيح.
التطويبات أخيرًا هي زمن تحقيق النبوءات ومواعيد الله، وتُعلِن من الآن ما سيحصل عليه التلاميذ من البركات والمكافأة وتكشف عن هدف الوجود الإنساني، وعن الغاية القُصوى للأعمال الإنسانية وهي أن الله يدعونا إلى سعادته الخاصة؛ وهذه الدعوة موجّهة إلى كل واحد شخصيًا. أن السعادة هي اختيار. لذا لنبدأ في عمل مزيد من التطويبات التي تجعلنا أكثر سعادة.
دعاء
أيها الاب السماوي، يا من دعونا الى متابعة رسالة التطويبات التي حملها ابنك يسوع المسيح على الأرض، هبنا القوة لكي نكافح الفقر والشقاء وإلغاء الاضطهاد والظلم فنساهم في إقامة ملكوت الله ونجد السعادة على الارض ثم السعادة في الحياة الأبدية. آمين
عن موقع ابونا
No comments:
Post a Comment